|
المقدمة
إنّ (الكعبة) هي أول بيت بُني بأمر من الله سبحانه وتعالى لهداية الإنسان، قال الله تبارك وتعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي ببَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)(1).
كما أنّ الكعبة بيت مقدس بُني على يد ابراهيم واسماعيل(عليهما السلام) قال الله تبارك وتعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(2). وهي البيت الذي امر الله ابراهيم واسماعيل(عليهما السلام) بتطهيره من رجس المشركين، قال الله تبارك وتعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(3). وهي الكانون المقدس الذي جعله الله قياماً للناس، قال الله تبارك وتعالى: (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ وَأَنَّ اللهَ بكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ)(4). وهي البيت الذي أمر الله إبراهيم بدعوة الناس إليه، وقال تبارك وتعالى: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِر يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق)(5). «الحجّ» ركن من الأركان الإسلامية، وقيام روحه ولبّه بمعرفة الله عزّ وجلّ. والغاية منه بعد توفّر الشرائط اثبات العبودية، والتحلّي ظاهراً وباطناً بالصبغة الابراهيمية والانصهار بالحنيفية السمحاء. إنّ الحجّ هو طريق العباد إلى الله، وهو آخر منازل القرب التي يمكنهم بلوغها في هذه الحياة الدنيوية، فهو لايعني مجرّد الذهاب إلى الحرم المكّي الشريف والإقفال منه راجعين، بل إنّ حقيقته بلوغ الأهداف والغايات التي وجب من أجلها. إنّ معنى الحجّ هو ترك الدِيار واللجوء إلى الدَيّار، وهو مقام الوصال الذي يمكن بلوغه من خلال تنقية الروح وإضناء الجسد وبذل المال، ومن هنا فقد عبّر القرآن عن مناسك الحجّ بـ «الشعائر» فيقوم الحاجّ بمحاكاة تلك الشعائر تقليداً رمزياً لما قامت به تلك الطليعة التوحيدية. إنّ الحجّ وسيلة للتقرّب إلى الله، وملاذاً معنوياً للانسان، فإنه حينما يردد نداء «لَبَيّك، أللّهمُّ لَبَيّكَ» يكون متضرعاً إلى الله من صميم ذاته وعمق كيانه، وهو يبثه لواعج نفسه. وعلى الحاجّ مضافاً إلى قيامه بمناسك الحجّ الظاهرية أن يكون مدركاً لحقيقة الحجّ، ومن هنا ينبغي أن يكون له سلوك روحاني لا جسماني. يجب على الحاجّ ان يبتعد عن الشهوات ويتخلّق بالأخلاق الملكوتيه، وعليه التحرر من جميع القيود، ولما كانت غايته بلوغ بيت الله، فعليه الإنفصال من بيته وجسمه الأرضي ليحلّق في الملكوت الأعلى. ومما يجدر ذكره أنّه لاتوجد هناك عبادة جوفاء خالية من الروح، بل انّ كلّ شعيرة من شعائر الحجّ تزخر بالمعاني الكثيرة التي تؤلف الهدف الأساس من الحجّ. تكمن في مناسك الحجّ أسرار دقيقة ينبغي للحجاج التنبّه إليها، وقد اشارت روايات كثيرة إلى تلك الأسرار. فقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) في هذا الشأن قوله: «فرض عليكم حجّ بيته الحرام، الذي جعله قبلة لِلأَنام، يردونه ورود الأَنعام، ويألهون إليه ولوه الحمام. جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، وإذْعانهم لعزّته. واختار من خلقه سمّاعاً أجابوا إليه دعوته، وصدّقوا كلمته، ووقفوا مواقف أنبيائه، وتشبّهوا بملائكته المطيفين بعرشه، يحرزون الأرباح في متجر عبادته، ويتبادرون عنده موعد مغفرته. جعله ـ سبحانه وتعالى ـ للإسلام علماً، وللْعائذين حرماً. فرض حجّه، وأوجب حقّه، وكتب عليكم وفادته، (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)(7)»(6). وفي موضع آخر: «الا ترون ان الله سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم ـ صلوات الله عليه ـ إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لاتضرّ ولا تنفع، ولا تُبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الّذي جعله للناس قياماً. ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقلّ نتائق الدنيا مدراً، وأضيق بطون الأودية قطراً، بين جبال خشنة، ورمال دمثة، وعيون وشلة، وقرى منقطعة، لايزكو بها خفٌّ، ولا حافرٌ ولاظلفٌ، ثم أمر آدم(عليه السلام)وولده، أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع اسفارهم، وغاية لملقى رحالهم، تهوى إليه ثمار الأفئدة، من مفاوز قفار سحيقة ومهاوي فجاج عميقة، وجزائر بحار منقطعة، حتّى يهزّوا مناكبهم ذللاً، يهلّلون لله حوله، ويرملون على أقدامهم شعثاً غبراً له. قد نبذوا السّرابيل وراء ظهورهم وشوّهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم، ابتلاء عظيماً وامتحاناً شديداً واختباراً مبيناً، وتمحيصاً بليغاً، جعله الله سبباً لرحمته ووصلة إلى جنّته. ولو اراد سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنّات وأنهار، وسَهل وقرار، جمّ الأشجار، داني الثّمار، ملتف البُنَى، متّصل القرى، بين برّة سمراء، وروضة خضراء، وأرياف محدقة، وعراص مغدقة، وزروع ناضرة، وطرق عامرة، لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء ولو كانت الإساس المحمول عليها والأحجار المرفوع بها بين زمرّدة خضراء، وياقوتة حمراء، ونور وضياء، لخفّف ذلك مصارعة الشّك في الصّدور، ولوضع مجاهدة ابليس عن القلوب، ولنفي معتلج الرّيب من النّاس، ولكنّ الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتّكبّر من قلوبهم، واسكاناً للتذّلل في نفوسهم، وليجعل ذلك ابواباً فُتُحاً إلى فضله، وأسباباً ذُلُلاً لِعَفوه»(8). وعن هشام بن الحكم قال: «سألت أبا عبد الله(عليه السلام) فقلت له: ما العلّة التي من أجلها كلّف الله العباد الحجّ والطواف بالبيت؟ فقال: «إنّ الله خلق الخلق ـ إلى أن قال: ـ وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الإجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا، ولينزع كلّ قوم من التجارات من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمّال، ولتعرف آثار رسول الله(صلى الله عليه وآله)وتعرف أخباره، ويذكر ولا ينسى، ولو كان كلّ قوم إنّما يتّكلون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد، وسقطت الجلب والأرباح، وعميت الأخبار، ولم تقفوا على ذلك، فذلك علّة الحجّ»(9). لما رجع مولانا زين العابدين(عليه السلام) من الحجّ استقبله الشبلي، فقال(عليه السلام)له: «حججت ياشبلي؟ قال: نعم يا ابن رسول الله، فقال(عليه السلام): «أنزلت الميقات وتجرّدت عن مخيط الثياب واغتسلت؟» قال: نعم، قال: «فحين نزلت الميقات نويت أنك خلعت ثوب المعصية، ولبست ثوب الطاعة؟» قال: لا، قال: «فحين تجرّدت عن مخيط ثيابك، نويت أنّك تجرّدت من الرياء والنفاق والدخول في الشبهات؟» قال: لا، قال: «فحين اغتسلت نويت أنّك اغتسلت من الخطايا والذنوب؟ قال: لا، قال: «فما نزلت الميقات، و لاتجرّدت عن مخيط الثياب، ولا اغتسلت، ثمّ قال: تنظّفت، وأحرمت، وعقدت بالحجّ؟» قال: نعم، قال: «فحين تنظّفت وأحرمت وعقدت الحجّ، نويت أنّك تنظّفت بنورة التوبة الخالصة لله تعالى؟» قال: لا، قال: «فحين أحرمت نويت أنّك حرّمت على نفسك كلّ محرم حرّمه الله عزّ وجلّ؟» قال: لا، قال: «فحين عقدت الحجّ نويت أنّك قد حللت كلّ عقد لغير الله؟» قال: لا، قال(عليه السلام) له: «ما تنظّفت، ولا أحرمت، ولا عقدت الحجّ». قال له: «أدخلت الميقات وصلّيت ركعتي الإحرام ولبّيت؟» قال: نعم، قال: «فحين دخلت الميقات، نويت أنّك بنيّة الزيارة؟» قال: لا، قال: «فحين صلّيت الركعتين، نويت أنّك تقرّبت إلى الله بخير الأعمال من الصلاة، وأكبر حسنات العباد؟» قال: لا، قال: «فحين لبّيت، نويت أنّك نطقت لله سبحانه بكلّ طاعة، وصمت عن كلّ معصية؟ قال: لا، قال(عليه السلام) له: «مادخلت الميقات، ولا صلّيت، ولا لبيّت». ثمّ قال له: أدخلت الحرم ورأيت الكعبة وصلّيت؟» قال: نعم. قال: «فحين دخلت الحرم نويت أنّك حرّمت على نفسك كلّ غيبة تستغيبها المسلمين من أهل ملّة الإسلام؟» قال: لا. قال: «فحين وصلت مكّة، نويت بقلبك أنّك قصدت الله؟ قال: لا. قال(عليه السلام): «فما دخلت الحرم، ولا رأيت الكعبة، ولا صلّيت»(10). من خلال الالتفات إلى ماتقدم يُعدّ الحجّ ركناً، ركيناً من أهم أركان الدين الإسلامي المقدس وضرورياته، فلابدّ للحجّاج عند ذهابهم في هذا السفر الروحي والكفّ عن اللذّات المادية، من تعريض انفسهم للإختبار الرباني، وأن يلتفتوا إلى أنّ سفرهم هذا سفر معنوي وروحي وليس هو سفر سياحة ونزهة، كما يحتوي هذا السفر ـ مضافاً لما فيه من المكاسب المعنوية والروحية ـ على منافع إجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية لكافّة المسلمين في العالم. نأمل الحصول على كامل الاستفادة من هذا التجمع الإسلامي العظيم الذي يقام كل سنة في كانون الوحي والرسالة، ونرجو ان يغتنم الحجاجّ الفرصة في تهذيب انفسهم واعلاء كلمة الإسلام، وان يطلبوا من الله في تلك الأمكنة المقدسة، العزّة للمسلمين، وان لايحرموننا من صالح دعائهم. جدير بالذكر إنّ كتاب مناسك الحجّ قد كتب باسلوب جديد على يد بعض الفضلاء في قسم الاستفتاء من مكتب آية الله العظمى الصانعي ـ دام ظلّه ـ وقد تمّ تطبيقه مع آخر آرائه وفتاويه الفقهية في مسائل الحجّ وحاشيته على تحرير الوسيلة، للسيد الإمام(سلام الله عليه). وها نحن نقدّمه إليك ايها القارىء الكريم. المؤسسة الثقافية منشورات ميثم التمار قم المقدسة -------------------------------------------------------------------------------- (1) آل عمران 3: 96. (2) البقرة2: 127. (3) البقرة 2: 125. (4) المائدة 5: 97. (5) الحجّ 22: 27. (6) آل عمران 3: 97. (7) نهج البلاغة، الخطبة 1. (8) نفس المصدر، الخطبة 192 (القاصعة). (9) علل الشرائع، ص 419، وسائل الشيعة 11: 14، أبواب وجوب الحج وشرائطه، ب18/1. (10) مستدرك الوسائل 10: 166، ح 5.
|