قصاص النفس (درس16)
الدرس دروس خارج الفقه _AyatollahSanei القصاص الدرس 16 التاريخ : 2008/12/18 قصاص النفس (درس16) بسم الله الرحمن الرحيم مناقشة الاستدلال على كون القصاص على المكرَه المباشر للقتل دون المكرِه وفي كل الوجوه مناقشة وإشكال، ولا شيء منها قابل للاستدلال والاحتجاج به في مقابل القواعد والأُصول الشرعية المعتبرة النافذة والاعتبارات العقلائية. أمّا الأوّل: فلاختصاصه بغير المفروض، حيث إنّ الدم المانع من التقية موجود معها أيضاً، لكون التوعيد به، فترك التقية غير موجب لعدم الدم؛ لتحقّقه بالنسبة إلى نفس المكرَه من جانب المكرِه, فنفي التقية منتفية بانتفاء علّته. وبالجملة، التقية في الحديث معلول لعدم الدم وحفظاً للدم والنفس, ومع فرض الدم ولو دم المتّقي، النفي منفي قضاءً للعليّة، فالحديث لمكان العلّية مختصٌ بغير التوعيد بالقتل. وتوهُّم اختصاص الدم بدم الغير كما ترى، فإنّه مخالف لإطلاق العلية بل لظاهرها؛ لعدم كون الدم المطلق علّة، بل العلّة الدم المقيّد المباين للمطلق. هذا, مع أنَّ مناط الأهميّة الدم والنفس، فعلى الخصوصيّة تكون الخصوصيّة ملغاة بالفحوى وبالإلغاءِ العرفي. هذا, مع أنَّه على عدم الإطلاق في الدم فالاستدلال بالحديث غير تام أيضاً؛ لاحتمال الانصراف إلى المتعارف في التقية في تلك الأزمنة من الإكراه والتقية, بالتوعيد بغير القتل من الضرر بالمال أو العِرض أو النفس، فإنَّ التوعيد بالقتل في تلك الأزمنة بل في زماننا أيضاً نادر جداً. وعلى هذا, فإطلاق أدلة الإكراه دليل على الجواز, وليس الحديث بمقيِّد له كما لا يخفى. وأمّا الثاني: ففيه: أنَّ المورد وقتل الثالث ليس من ذلك الباب، بل من باب عدم تحمّل الضرر على الغير بالضرر على النفس، وهو أمرٌ جائز, فإنَّ الضرر متوجِّه من أوّل الأمر إلى الثالث، والمكرِه يريد قتله بتوعيد الغير عليه، فالمكرَه مع قتلهالثالث ليس بمُوقع ضرر نفسه؛ لعدم توجّه الضرر من المُلجئ إليه من أوّل الأمر, بل منه متوجّه إلى الثالث بدواً كما هو واضح, فقتله الثالث ويكون مُوقع لضررالثالث على نفسه عكس إيقاع ضرر النفس على الغير. وبالجملة, دفع الضرر المتوجّه إلى النفس بالإيقاع على الغير ـ كجريه السيل الوارد في بيته على بيت الجار ـ قبيح وحرام. وأمّا دفع الضرر المتوجّه إلى الغير بتوجيهه إلى نفسه ـ كدفع السيل عن بيت الغير لحفظه إلى بيت نفسه ـ فغير واجب. وقتل المكرَه الثالث المقصود للمكرِه مع التوعيد عليه بقتل المكرَه مع تركه كما في محل البحث يكون من باب ترك تحمّل ضرر قتله الغير بإيقاعه على نفسه, وهو غير واجب، لا من باب إيقاع ضرر نفسه على الغير حتى يكون قبيحاً ومحرّماً كما لا يخفى. وأمّا الثالث: فقد عرفت أنَّ الاستدلال به موقوف على ترك الاستفصال، والظاهر عدم المحلّ له؛ لِما بين الإكراه والأمر من المباينة مفهوماً، فالاتحاد الموجب للسؤال لابدّ وأنْ يكون من جهة المصداق، فإنَّ الإكراه أخصُّ مطلقاً من الأمر بحبسه، لكنَّ المتعارف انفرادهما عن الآخر في السؤال والجواب والمكالمات، ولذلك كان البحث في الكتب الفقهية عن كلّ واحد منهما مستقلاً؛ وذلك لأنّ لكلٍّ منهما عناية خاصة، فالعناية في الأمر إليه وإلى الآمر القانوني أو الاجتماعي أعم من المشروع وغير المشروع، وفي الكراهة إلى حيث الإكراه والإجبار. فعلى هذا، لا موقع للاستفصال أصلاً كما لا يخفى. وبعبارة اُخرى: حيثية الأمر حيثية استلزام التخلُّفِ العقوبةَ قانوناً وعقلاءً حقيقة، أو من جهة سوء استخدام الآمر سلطته وحاكميته، فالعقوبة في الآمر تدخل في العقوبات المجعولة في الشرع والقانون والحكومة, أو من سوء مُعاقبة المتخلِّف بما يضرّه من الأمور الاستخداميّة وغيرها. وحيثية الإكراه حيثية التوعيد بإضرار المُلجئ على المكرَه بما في يده واختياره الشخصي من التوعيد, إضراراً في المال أو في العرض وغيرهما من دون ارتباطه بالحكومة والقانون. هذا, مع ما في موثقة السّكوني وإسحاق بن عمّار في أمر المولى عبده بالقتل من قتل السيد وسجن العبد[1]. وفي (الشرائع) ما يؤذن بتوقّفه في حبس الآمر وإنْ جزم بقتل المكرَه المباشر, فقد جاء هناك: (إذا أكرهه على القتل فالقصاص على المباشر دون الآمر, ولا يتحقق الإكراه في القتل, ويتحقق فيما عداه. وفي رواية علي بن رئاب: ((يُحبس الآمر بقتله حتى يموت))[2]..)[3]. وفي (المسالك): (ونسبة المصنّف الحكم ـ الحبس ـ إلى الرواية يؤذِن بالتوقّف فيه، ولا بأس به ـ أي بالحكم ـ لصحّة الرواية)[4]. هذا كلّه، مع أنَّه لا يبعد أن يكون السؤال عمّا يتفق من أمر بعض من الأفراد بعضاً آخر بالقتل؛ حقداً وحسداً وجنايةً وبُغضاً على المقتول, مع اشتراكهم في تلك الرذائل الأخلاقيّة والدواعي المؤدّية إلى القتل, وليست مخالفة ذلك الآمر مستتبعة ومتعقبة للجزاء والعقوبة القانونية, ولا الناشئة من سوء استخدام الآمر سلطته ووجاهته ومقامه, ولا الضرر الشخصي المتوعَّد به، بل مخالفته مخالفة لتلك الدواعي المشتركة ومخالفة في قتله المحبوب للمأمور وللآمر معاً. فهذا النحو من الآمر مفارق مع غيره من الأوامر في الجزاء والعقوبة أوّلاً، وفي داعي الامتثال ثانياً ـ فإنّ الداعي في غيره هو الخوف من العقوبة القانونيّة أو الضرر المتوعَّد عليه من جهة الإكراه, أو من جهة سوء الاستفادة من السلطة القانونيّة دونه, فإنّه البغض والتواطؤ على القتل ـ وفي الآمر ثالثاً، فإنّ الآمر في غيره له القدرة والآمرية دونه, فليس في آمره تلك القدرة. نعم, يكون الآمر في هذا القسم محرِّكاً للمأمور ودافعاً له, فهو فيقول مثلاً: اقتله فعليّ دمه، أو: ليس بينكم رجل يقتل فلاناً, وغير ذلك مما يظهر للمطّلع على ما بين الناس وعداوة بعضهم لبعض, لا سيّما العداوة الطائفية والقبليّة والتعصبيّة وأمثالها. وعلى ذلك, فالرواية مربوطة بأمر عرفي خارجيٍّ بين الناس، ولا ارتباط لها بالأمر مع القدرة، فضلاً عن صورة الإكراه. وإنْ أبيتَ عن ظهور الرواية في ذلك فلا أقلّ من الاحتمال المبطل للاستدلال، فتدبّر جيداً, فإنّه ممّا ينبغي التدبّر فيه لتزداد المعرفة في محاسن كلامهم وحسن الاتّباع لهم, صلوات اللّه عليهم أجمعين. وأمّا الرابع: فمن المعلوم أنّه لا كلام في كون المراد من الآية قصاص القاتل وأنَّ نفس القاتل بنفس المقتول, ولا بحث فيه أصلاً, وإنّما الكلام في المسألة في القاتل من أنّه المباشر لمباشرته, أو السبب ـ أي المُلجئ المكرِه ـ لأقوائيته، فإنّ ثبوت القصاص على السبب الأقوى من مسلّمات الفقه في القصاص وفي غيره من الضمانات, والقائل بكون القصاص على الملجئ المكرِه قائل بأقوائيته في القتل من المباشر المكرَه, فذلك القائل عامل بالآية كغيره من القائلين بقصاص المباشر كما لا يخفى. وبالجملة، مقتضى الآية في المقام هو مقتضاه في كل ما كان السبب أقوى، ولا إشكال عندهم في قصاص السبب الأقوى دون المباشر. وأمّا الخامس: فمضافاً إلى أنَّ الأصل في هذا الإجماع هو ما نقله الشيخ في (الخلاف)، كونه في مسألة اجتهاديّة فلا يكون حجّة، فإنّ الإجماع حجّة فيما ليس للعقل إليه سبيل, ولا للنقل فيه دليل. ولننقل عبارة (الخلاف) بأجمعها؛ لما فيها من الفائدة ومن الشهادة على عدم البُعد في كونه إجماعاً حدسياً لا حسيّاً: (إذا أكره الأمير غيره على قتل من لا يجب قتله, فقال له: إنْ قتلته وإلاّ قتلتك، لم يحلّ له قتله بلا خلاف، فإنْ خالف وقتل فإنَّ القَوَد على المباشر دون الملجئ، وفرض الفقهاء ذلك في الإمام والمتغلِّب مثل الخوارج وغيرهم، والخلاف في الإمام والأمير واحد. وللشافعي فيه قولان: أحدهما: يجب عليهما القَوَد كأنَّهما باشرا قتله معاً, وبه قال زفر. قال: وإنْ عفا الأولياء فعلى كلّ واحد منهما نصف الدية والكفارة. والقول الثاني: على المُلجئ وحده القَوَد، وعلى المكرَه نصف الدية، فإنْ عفا عنه الإمام فعليه نصف الدية، وعلى كلِّ واحد منهما الكفارة. ولا يختلف مذهبه أنَّ الدية عليهما نصفان وعلى كلّ واحد منهما الكفارة، وأنَّ على الإمام القَوَد. وهل على المكره القَوَد؟ على قولين. وقال أبو حنيفة، ومحمد: القَوَد على المكرِه وحده، ولا ضمان على المكرَه من قَوَد ولا دية ولا كفارة. وقال أبو يوسف: لا قَوَد على الإمام ولا على المكرَه، أمّا المكرَه فلأنّه مُلجأ, وأمَّا الإمام فلأنَّه ما باشر القتل. دليلنا: قوله تعالى: (وَمَنْ قُتِلَ مظْلُومَاً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانَاً)[5]. وهذا قُتِل مظلوماً، وعليه إجماع الصحابة. وروي: أنَّ رجلين شهدا عندالامام علي ـ عليه السلام ـ على رجل بالسرقة، فقطعهالامام علي عليه السلام، ثمّ أتياه بآخر وقالا: هذا الذي سرق وأخطأنا على الأوّل, فردّ شهادتهما علىالثاني وقال: ((لو علمت أنكّما تعمدتما على الأوّل لقطعتكما)). فموضع الدلالة أنَّه ـ عليه السلام ـ قضى بالقصاص على مَن ألجأ الحاكم إلى القطع بالشهادة مع قدرة الحاكم على الامتناع من قتله بأنْ يعزل نفسه عن النظر، والمكرَه أغلظ حالاً من الحاكم، فإنَّه مُلجأ إليه على وجه لا يمكنه إلاّ قتله خوفاً على نفسه، فإذا كان على الشاهد القَوَد, فكونه على المكرَه أولى وأحرى. وهذا دليل الشافعي, وليس فيه دلالة; لأنّه قياس ونحن لا نقول به, ومعوَّلنا على الآية ـ قوله تعالى: (الحُرُّ بِالحُرِّ والعَبْدُ بالعَبْدِ والأُنْثَى بالأُنثَى)[6] ـ وعلى إجماع الفرقة. وأيضاً روى عثمان بن عفان أنّ النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قال: ((لا يحلّ دم امرئ مسلم إلاَّ بإحدى ثلاث: كفرٍ بعد إيمان، أو زناً بعد إحصان، أو قتلِ نفسٍ بغير نفس)). وهذا قَتَل نفساً بغير نفس، فيجب أن يحلّ دمه)[7]. وقال في (المبسوط): (فأمّا إنْ أكرهه على قتله فقال: إنْ قتلته وإلاّ قتلتك, لم يحلّ له قتله وإنْ كان خائفاً على نفسه; لأنّ قتل المؤمن لا يُستباح بالإكراه على قتله، فإنْ خالفه وقتل فقد أتى كبيرة بقتل نفس محترمة. فأمّا الضمان فعندنا أنَّ القَوَد على القاتل، وعند قوم منهم، وقال بعضهم: عليه وعلى الآمر القَوَد، كأنَّهما باشرا قتله واشتركا فيه)[8]. ولا يخفى أنَّ عبارة (الخلاف) وإنْ كانت ظاهرة في الإجماع، إلاَّ أنَّ ظهور (عندنا) في (المبسوط) المتأخر عن (الخلاف) تأليفاً، كما يظهر من قوله في مقدمة (المبسوط): (ولا أذكر أسماءَ المخالفين في المسألة؛ لئلاّ يطول به الكتاب، وقد ذكرت ذلك في مسائل (الخلاف) مستوفىً)[9] إنْ لم يكن قرينة على وحدة المراد وأنَّ ذلك مقتضى المذهب فلا أقل من الاحتمال. -------------------------------------------------------------------------------- [1] - وسائل الشيعة 29: 47، أبواب القصاص في النفس، ب 14، ح 1 و 2. [2] - وسائل الشيعة 29: 41، أبواب القصاص في النفس، ب 13، ح 1. [3] - شرائع الإسلام2: 363. [4] - مسالك الأفهام 2: 363. [5] - الإسراء: 33. [6] - البقرة: 178. [7] - كتاب الخلاف 5: 167، كتاب الجنايات، المسألة 29. [8] - المبسوط 7: 41. [9] - المبسوط 1: 3.
|