الأوامر (درس51)
الدرس دروس خارج الأصول مباحث الدليل اللفظي الدرس 51 التاريخ : 2008/12/21 بسم الله الرحمن الرحيم إشكال ثالث: إذا استحال التقييد بقصد القربة استحال كذلك التقييد بعدم قصد القربة، ولابدّ أن يكون الحكم مطلقاً، وأنّه مجعول على الموضوع أعم من قصد القربة وعدم قصدها، لكون الإهمال في مقام الجعل محال، والنتيجة: إذا امتنع التقييد بأي قيدٍ ثبت الإطلاق. بيان ذلك: التقييد بقصد القربة محال كما هو المفروض باعتبارنا نبحث على مبنى صاحب (الكفاية)[1] ، والتقييد بعدم قصد القربة محال كذلك؛ لأنَّ قصد القربة معتبر في العمل ودخيل في الغرض وإذا قُيّد الحكم بعدمه يكون الحكم عندئذٍ مخالفاً للغرض. نعم، يمكن أن يكون الدليل مهملاً في مقام البيان بأن لا يبني المقنِّن في الدليل خصوصيات الحكم، بل يريد بيان أصل الحكم كما في قوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ)[2] فالآية في مقام بيان أصل حكم القصر دون بيان باقي الخصوصيات مثل المسافة وأنّها ثمانية فراسخ أو مسافة يوم أو أي شيء آخر. لا مانع للمقنِّن أن يبيّن أصل الحكم دون خصوصياته، أمّا في مقام التقنين فالإهمال محال وينبغي تقييد موضوع حكمه بقصد القربة، أو بعدم قصد القربة، أو يكون مطلقاً تجاه كلٍّ من القيدين. ولك أن تقول: كلَّما امتنع التقييد بشيءٍ وجب الإطلاق بالنسبة إلى ذلك الشيء. وهذا يخالف كلام صاحب (الكفاية)[3] والإمام[4] والمحقّق مائة بالمائة من حيث الكبرى ومن حيث المورد، وهذا هو كلام السيّد الخوئي وإشكاله على المرحوم النائيني، ولأجل اتضاح الإشكال الأوّل والثاني للسيّد الخوئي على المرحوم النائيني ننقل عين عبارة (فوائد الاُصول)، وسندرك عندئذٍ خطأ السيّدالخوئي في نقله لرأي الشيخالنائيني. يقول الشيخ النائيني: (الأمر الثالث: وهو أنّه لا أصل في المسألة يعيّن أحد طرفيها، فلا أصالة التوصلية تجري في المقام، ولا أصالة التعبدية فيما لم يحرز توصليته وتعبديته. أمّا جريان أصالة التوصلية فلا نعقل لها معنى سوى دعوى أنّ إطلاق الأمر يقتضي التوصلية، وحيث قد عرفت امتناع التقييد فلا معنى لدعوى إطلاق الأمر، فإن امتناع التقييد يستلزم امتناع الإطلاق بناءً على ما هو الحقّ من أنَّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة، كما هو طريقة سلطان المحقّقين ومن تأخَّر عنه. وعليه يبتني عدم استلزام التقييد للمجازية، والسرّ في ذلك هو أنّ الإطلاق إنّما يستفاد حينئذٍ من مقدمات الحكمة، وليس نفس اللفظ متكفلاً له...). ثمّ يقول: (والعجب من الشيخ[5] ـ قدّس سرّه ـ فإنَّه مع تسليمه كون امتناع التقييد يوجب امتناع الإطلاق، ولكن مع ذلك يقول في المقام: إنَّ ظاهر الأمر يقتضي التوصلية، ولم يظهر لنا المراد من الظهور)[6]. هذه كيفية الاستدلال وفقاً لتقرير بعض تلامذته، ولا يخفى أن هذه الكيفية من الاستدلال لا علاقة لها بمبنى الاستدلال في مسألة تقابل الملكة وعدمها، فمبنى الاستدلال في ذلك الحكم هو العقل الذي بيّنه في ذيل عبارته: (فسّر ذلك) باعتبار أنّ العقل في باب الحجة يعتبر القدرة؛ لأنّ العقل لا يُتمُّ الحجة إلاّ بالقدرة. إذن ، المبنى ليس مسألة التقابل لكي تحلَّ التقابل بالصنف والجنس، بل المبنى حكم العقل. ويرد عليه ما يلي: أوّلاً: جعل الحكم على موضوعٍ مطلق مخالف للغرض، وهو مثل جعل الحكم الموضوع مقيداً بعدم القيد في كونه خلاف الغرض؛ لأنّ الغرض لا يتأمّن إلاّ بقصد القربة. ثانياً: جعل الحكم على المهمل في الغرض لا أنّه جائز فحسب بل واجب ولازم؛ لأنّ سرّ عدم الإهمال في الموضوع هو جهل الجاعل بالموضوع، وما نحن فيه الجاعل عالم بالموضوع لكنَّه غير قادر ، وما هو المحال في هذا المجال؟ تلخّص ممّا ذكرنا أنَّ كلام المرحوم الشيخ وصاحب (الكفاية)[7] والإمام ـ قدّس سرّه ـ[8] صحيح حيث قالوا: (إذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق)، ولم يقولوا: إذا امتنع التقييد وجب الإطلاق. إذا عرفت الاُمور التي أردنا تقديمها فنقول: بناءً على إمكان أخذ قصد القربة في المأمور به إمّا مطلقاً كما هو المختار، وإمّا إذا كان قصد القربة بمعنى كون الجهة داعية أو كون الله تعالى هو الداعي كما هو مختار صاحب (الكفاية)[9] فالأخذ بالإطلاق فيما كان أمكن تقييده صحيح فلا إشكال فيه كما هو واضح. بالطبع ينبغي أن تكون مقدمات الحكمة تامة، وينبغي أن يكون المولى في مقام البيان ولم يُنصّب قرينة تثبت العكس، بل كونه أمر بالطبيعة وبإطلاق المأمور به، فأقول عندئذٍ بعدم اعتبار قصد القربة فقد قال المولى: (كفّنوا أمواتكم)، ولا أعلم باعتبار قصد القربة مع أن المولى في مقام البيان ولم يُنصّب قرينة على خلاف ذلك، من هنا يُعرف عدم اعتبار قصد القربة. وأمّا بناءً على استحالة أخذ قصد القربة إمّا مطلقاً كما هو مختار الشيخ المرحومالنائيني[10] سواء كان الداعي الأمر أو الجهة أو الله تعالى، وإمّا بالمعنى الخاص كما هو مختار صاحب (الكفاية)[11] فالأخذ بالإطلاق ـ عندئذٍ ـ غير صحيح حتّى لو كانت مقدمات الحكمة تامة؛ لأن الإطلاق فرع إمكان التقييد كما بيّناه مفصّلاً. هذا كلّه بالنسبة إلى الإطلاق اللفظي وأمّا الإطلاق المقامي فالأخذ به صحيح، وذلك باعتبار أنّ المولى في مقام بيان جميع الاُمور الدخيلة في غرضه، فهو يقول: غرضي من الصلاة عروج المؤمن ويلزم في العروج الطهارة والاستقبال والطمأنينة وقراءة الحمد وسورة، والمولى في مقام بيان جميع الأجزاء والشرائط الدخيلة في غرضه، وفي مقام كهذا لابدّ من القول بعدم دخل قصد القربة في الغرض وعدم الذكر حجة عليه. النتيجة: يجزي الإتيان بالعمل دون قصد القربة ويكون مسقطاً للتكليف، وعدم الذكر حجة على عدم اشتراط قصد القربة. وأمّا الإطلاق الحالي فهو حجة لكن ليس بحجة في قصد القربة وأمثالها، وذلك لكون الإطلاق الحالي عبارة عن أنّ المقنِّن عندما يبيّن القانون ويبيّن الاُمور الدخيلة فيه والغرض منه ولم يتطرّق لأمرٍ مغفول عنه عند العامّة عمداً ولم يبيّنه، كان عدم بيانه دليلاً على عدم اعتباره في القانون. نلخّص ما تقدّم ونقول: هناك ثلاثة أصناف من الإطلاق: الإطلاق اللفظي، والإطلاق المقامي، والإطلاق الحالي. الإطلاق اللفظي هو أن يكون المولى في مقام بيان الحكم ولم يذكر قيداً للموضوع أو متعلّقه. الإطلاق المقامي هو أن يكون المولى في مقام بيان أجزاء وشرائط المأمور به وكذا بيان كلّ ما له دخل في الغرض، وإذا لم يذكر أمراً كان عدم الذكر دليلاً على عدم الاعتبار. الإطلاق الحالي هو عبارة عن عدم ذكر أمر في لسان الشارع، لكن ينبغي أن يكون هذا الأمر مغفولاً عنه عند عموم الناس، ولو لم يكن مغفولاً عنه لما أمكن القول بعدم اعتباره فلعلّه اعتمد على القواعد العامة أو اعتمد أحكام العقل. مع أنّ قصد القربة ليس من الاُمور المغفول عنها عند الناس، بل هو رائج عند جميع الملل والأديان. قصد القربة وفقاً لمبنانا ذا إطلاق لفظي يمكن التمسّك به، وذا إطلاق مقامي كذلك. أمّا بناءً على رأي صاحب (الكفاية)[12] فلا إطلاق لفظي فيه لكن فيه إطلاق مقامي، ولا إطلاق حالي فيه وفقاً لكلا المبنيين. -------------------------------------------------------------------------------- [1] - الكفاية: 72. [2] - النساء: 101. [3] - الكفاية: 75. [4] - تهذيب الاُصول 1: 122. [5] - مطارح الأنظار : 58 ـ 59. [6] - فوائد الاُصول 1 ـ 2: 155. [7] - الكفاية: 75. [8] - تهذيب الاُصول 1: 122. [9] - الكفاية: 75. [10] - فوائد الاُصول 1 ـ 2: 155. [11] - الكفاية: 75. [12] - الكفاية: 75.
|