الأوامر (درس52)
الدرس دروس خارج الأصول مباحث الدليل اللفظي الدرس 52 التاريخ : 2008/12/21 بسم الله الرحمن الرحيم المقام الثاني: في الأصل العملي أي إذا لم يكن دليل على شرطية قصد القربة ولا على عدم شرطيته، فما هو مقتضى الأصل البراءة أم الاحتياط والاشتغال؟ كان المقام الأول في الأصل اللفظي أي الإطلاق، أما المقام الثاني ففي مقتضى الأصل العملي. وقبل الدخول في البحث ينبغي التنبيه على اُمور: الأمر الأول: في كيفية تعبدية التعبديات، ولها وجوه بل أقوال. القول الأول: تعبدية التعبديات باعتبار دخل قصد القربة في الغرض، فأنّه قيل بلزوم الإتيان بالصلاة بقصد القربة رغم استحالة أخذه في المأمور به، لأجل أنّ قصد القربة له دخل في الغرض وهذا القول هو المختار. القول الثاني: التعبدية من باب حكم العقل، فرغم أنّ المولى يستحيل عليه أخذ قصد القربة في المأمور به، لكنّ العقل يحكم بلزوم الإتيان بالحج مثلاً بقصد القربة. وهذا هو الظاهر من (الكفاية)[1]. ولا يخفى أنّ هذا الوجه غير تام، لكون المراد من حكم العقل إما حكمه مستقلاً بلزوم قصد القربة، أو حكم العقل من باب أنّ قصد القربة له دخل في الغرض. إذا كان الأول هو المراد كان باطلاً قطعاً؛ لأنّ العقل ليس حاكماً وليس له مولوية وليس مقنّناً ولا يمكنه إصدار حكم تكليفاً ولا وضعاً. نعم، ما قيل من أنّ أحكام العقل من الأدلة فذلك بمعنى أنّ العقل كاشف عن الحكم الإلهي. وإذا كان المراد الثاني فذلك يرجع إلى كون تعبدية التعبديات لأجل دخل قصد القربة في الغرض. القول الثالث: تعبدية التعبديات لأجل نفس الأمر، أي أنّ هناك مجموعة من الأوامر تقتضي أن يأتي فيها المكلّف بالمأمور به مع قصد القربة، وهذا شأن يقتضيه الأمر بحد نفسه وبهويته الذاتية، وهو مختار الشيخ الأعظم[2]. وهذا القول غير تام كذلك؛ للأُمور التالية. أولاً: بأنّا لا نفرّق وجداناً بين الأوامر، ولا نرى فرقاً بين هوية أمر وهوية أمرٍ آخر بحيث أحدهما يقتضي التعبّد والآخر التوصّل، ونحن لا نجد الفرق بين الأوامر في التشريعات الدولية والشعوبية وكذا في تشريعات الكتاب والسُنّة. ثانياً: إذا كانت المصلحة تقتضي التعبدية ـ أي المصلحة في الجعل وبيان الأمر ولا علاقة لنا بنفس العمل ـ فينبغي أن ينتفي لزوم التعبّد بمجرّد إتمام الأمر؛ لأنّ الأمر تمّ ولم نرَ لازمه ـ ضرورة إتيان المأمور به بقصد القربة ـ ومن هنا يتضح أنّ المصلحة في المأمور به. ثالثاً: إذا كان تعبدية التعبديات بالأمر في قصد القربة كان ينبغي القول بكفاية داعوية الأمر وعدم كفاية داعوية الله والمحبوبية والحسن كما اختار ذلك صاحب (الجواهر)[3] ، مع أنّ المعروف بين الفقهاء كفاية قصد القربة سواء كانت بداعي الأمر أو بداعي استحقاق العبودية أو بداعي حسن العمل أو محبوبيته. القول الرابع: وهو للشيخ المرحوم النائيني[4] وعبارة عن كون تعبدية التعبديات بمتمم الجعل بمعنى أن المولى يأمر بما يلي: أولاً: يأمر بذات المأمور به ولا يأخذ فيه قصد القربة؛ لأنّه محال. ثانياً: يأمر أن يؤتى بالمأمور به في الأمر الأول بداعي الأمر. لا يقال: الإتيان بالمأمور به بالأمر الأول بدون قصد القربة كافٍ ولا تصل النوبة إلى الأمر الثاني، فالإتيان بذات المأمور به مسقط. لأنه يقال: كلا ليس مسقطاً؛ لأنّ الأمرين لتأمين غرض واحدٍ، ولذلك لا يمكن الإتيان بالأمر الأول وتغضُّ النظر عن الأمر الثاني. إذا قلت: يكفي الأعلام بالغرض، فإذا أعلمنا المولى بالغرض جاء المكلف بقصد القربة. قلنا: هذا غير صحيح؛ لأنّ تأمين أغراض المولى بمعنى المصالح والمفاسد الكامنة في الأوامر والنواهي غير واجب، وما على العبد إلاّ الامتثال للأوامر والنواهي فقط. الأمر الثاني: في الأقل والأكثر الارتباطيين أي الشك في الجزئية والشرطية، وفيها ثلاث نظريات وأقوال. الأولى: البراءة شرعاً وعقلاً، وهو مختار سيدنا الأستاذ[5]. الثانية: البراءة الشرعية والاحتياط العقلي، وهو مختار صاحب (الكفاية)[6]. الثالثة: الاحتياط والاشتغال، وهو مختار بعض الفقهاء. وهذه الأقوال خاصة عند الشك في المأمور به أي في جزئية أو شرطية شيء ما، أمّا إذا كان الشك في المحصّل فالجميع يقول بالاحتياط كما لو أوجب المولى الطهارة، فالمأمور به هو الطهارة وأنا أشك في الوضوء الذي هو محصّل الطهارة وأشك في أنّ الغسل ينبغي أن يكون من فوق المرفق أو من نفسه أي أشك في شرطية كون الغسل من المرفق، أو أشك في أن الغسل من المرفق إلى الأصابع أو بالعكس من دون فرق بين أن يكون المحصّل محصّلاً شرعياً كالوضوء للطهارة وبين أن يكون المحصّل عقلياً؛ لأنّه على فرض جريان البراءة أشك في المحصّل في أنّ الغسل أو المسح من الفوق إلى التحت أو بالعكس؟ فحديث ((رفع ما لا يعلمون))[7] يرفع شرطية ذلك؟ حصول الطهارة أو المسبّب بعد حصول السبب يُعدُّ عقلياً ومثبتاً، والمثبتات ليست حجة في الأصول، هذا مع أنّ المحصّل إذا كان عقلياً مثل محصّلية المأمور به للغرض، فالإتيان بالمأمور به يؤمّن غرض المولى ويحصّل الغرض، فهذه المحصّلية بحكم العقل أم بحكم الشرع؟ المحصّلية تتمُّ بحكم العقل؛ لأنّ الارتباط هنا تكويني، فالأغراض مجموعة من الاُمور، والمأمور به مجموعة من الأمور كذلك، فإذا جئت بالمأمور به أمّنت غرض المولى سواء أراد المولى أو لم يرد، وإذا كانت المحصّلية عقلية فلا تأتي أصالة البراءة في نفس المحصّل ولا يمكنها أن تأتي، فلا يمكن القول بأني أشك في دخل أو عدم دخل الأمر الفلاني في المحصّل فأزيله وأنفيه؛ لأنّ المحصلية ليست بيد الشارع ومورد حديث البراءة هو ما كان بيد الشارع. وهذا تمام الكلام في المحصِّل والمحصَّل. الأمر الثالث: البحث في التعبدي والتوصلي بالنسبة إلى الأصل العملي مبني على عدم إمكان أخذ قصد القربة في المأمور به، أمّا بناءً على الرأي القائل بإمكانية. أخذ قصد القربة في المأمور به[8] فالمسألة تكون ـ عندئذٍ ـ من صغريات مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين دون أن تفرق عن مسألة الشك في السورة من حيث كونها شكاً في الأقل والأكثر الارتباطيين. المسألة على المبنى الآخر تكون تابعة على العموم إلى النظريات الواردة في هذا المجال فالقائل بالبراءة يقول بالبراءة هنا كذلك، والقائل بالاحتياط يقول بالاحتياط هنا كذلك، أما إذا رفضنا هذا المبنى فلا بحث يكون في المجال. إذا عرفت هذا فنقول: بناءً على المبنى الذي قلنا فيه بعدم إمكانية أخذ قصد القربة في المأمور به ويكون اعتباره من باب الدخل في الغرض، فإذا شككنا ـ بناءً على هذا ـ في أن تكفين الموتى تعبدياً أم توصلياً، أي شككنا في أن غرض المولى يحصل بالتكفين دون قصد القربة أم لا يحصل، أو أنا نشك في شرطية التعبّد، وبما أنّ المبنى كون قصد القربة إذا كان دخيلاً في الغرض كان الشك شك في حصول غرض المولى أي لا نعلم بتأمين غرض المولى من خلال التكفين دون قصد القربة، فالشك في المحصِّل والمحصَّل، والقاعدة هنا هي الاحتياط. -------------------------------------------------------------------------------- [1] - الكفاية: 75. [2] - مطارح الأنظار: 58 ـ 59. [3] - الجواهر 9: 155 ـ 161. [4] - فوائد الاُصول 1 ـ 2: 151. [5] - تهذيب الاُصول: 1: 125. [6]- كفاية الاُصول 1: 75. [7] - الوسائل 15: 369، أبواب جهاد النفس...، ب56، ح1. [8] - جواهر الكلام 9: 155 ـ 161.
|