الأوامر (درس47)
الدرس دروس خارج الأصول مباحث الدليل اللفظي الدرس 47 التاريخ : 2008/12/21 بسم الله الرحمن الرحيم اتحاد الطلب والإرادة واختلافهما عرج صاحب (الكفاية) ـ قدّس سرّه ـ من خلال البحث عن اتحاد الطلب والإرادة إلى بحث الجبر والتفويض وهو بحث خارج عن مباحث الاُصول، وما يبحث في الأصول هو ما ينبغي وما لا ينبغي، ومسألة الجبر والتفويض من المسائل المشكلة التي عبّر عنها نفس صاحب (الكفاية) بالعبارة الفارسية التالية: (قلم اينجا رسيد وسر بشكست)، وقد وصف السيد البروجردي ـ قدّس سرّه ـ في (نهاية الأصول) البحث في هذا المجال بالشكل التالي: (الورود في هذا الميدان والاشتغال بمصارعة الفرسان خطير، وربّ ذهن صاف لا نرضى أن نورده في هذا البحر العميق الذي لا ينجو منه إلاّ الأوحدي من الناس). هذا مع أنّ بحوث الاُصول جميعها اعتبارية وليس من المناسب إدخال بحوث من قبيل الجبر والتفويض فيها. من المناسب أن نذكّر بمطلبين هنا. الأوّل: البحث عن اتحاد الطلب والإرادة ليس بحثاً لفظياً كما زعم السيد محمد تقي صاحب الحاشية على (المعالم)، وكما يظهر من كلام المرحوم الآخوند، بل هو بحث عقلي وماهوي. اختلفت الأشاعرة مع المعتزلة وقاطبة أهل الحق في أن الأشاعرة قالوا باختلاف الإرادة والطلب، بينما ذهبت المعتزلة وقاطبة أهل الحق إلى وحدة الإرادة والطلب وظن البعض أن الاختلاف بين الطائفتين اختلاف في بحثٍ لفظي ولغوي على أساس أنه بحث بمثابة البحث في المترادفين من قبيل الإنسان والبشر، ولذلك قال صاحب (الكفاية) هنا: إنّ الموضوع له في الإرادة والطلب واحد، لكن عندما يقال: طلب ينصرف إلى الإنشائي، وعندما يقال: إرادة ينصرف إلى الحقيقي، وبهذا يكون النزاع محلولاً، فالذي يقول بأنهما شيئان يُريد الطلب الإنشائي والإرادة الحقيقية، والذي يقول بأنهما واحد فيريد الموجود في صقع النفس. الثاني: سحب الشيخالآخوند البحث هنا إلى البحث عن الجبر والتفويض وتقريبنا لذلك هو كالتالي: كل فعل أو ترك يصدر من المكلّف يكون متعلّقاً للإرادة التشريعية للباري تعالى، ولا مانع من تخلّف المراد عن الإرادة التشريعية، والمانع هو في تخلّف المراد عن الإرادة التكوينية؛ وذلك لأن الإرادة التكوينية عين علم الله تبارك وتعالى وهي موافقة للنظام الأتم والأكمل. وعلى هذا، تكون هنا مقدمتان: الأولى: الطاعة والعصيان موضع إرادة الله التشريعية، والتخلف عن الإرادة التشريعية لا مانع منه. الثانية: إرادة الله التكوينية عين علم الله وفقاً للنظام الأتم والأكمل. وعلى هذا، إذا صلّى شخص صلاة الصبح، كان ذلك موضع إرادة الله وعلمه؛ لأن علمه تعلّق بالنظام الأتم والأكمل ولا تخلّف فيه، ولذلك كانت صلاة الصبح بالإرادة التكوينية للباري تعالى، ولا دور للمكلّف في ذلك. وكذا الحال في ترك الصلاة، ومن هنا يُطرح إشكال الجبر. لكن الجواب واضح ولا مؤونة فيه، فنحن نسلّم بأن الإتيان بصلاة الصبح متعلق بعلم ذات الباري بالنظام الأتم والأكمل، لكن الإتيان كان عن اختيار. إن قلت: مع الالتفات إلى عدم إمكان تخلف العلم عن المعلوم، وإلى قضية الوراثة والبيئة والمجتمع وتأثير هذه الأمور على مصير الإنسان، لا مفرّ إلاّ من القول بالجبر وأنّ الذاتي لا يُعلّل والسعيد سعيد من بطن أُمه كما قال بذلك صاحب (الكفاية). قلت: جميع الأمور المتقدمة تعد عللاً غير تامة، بل هي ذات طابع اقتضاء، والإنسان ـ في النهاية ـ هو صاحب القرار ويصمم على الفعل أو الترك. صاحب (الكفاية) ينقل كلاماً عن صاحب (المعالم) يدّعي فيه أن صيغة الأمر تستعمل في الندب كثيراً واستعمالها فيه مجاز رائج ومشهور، وعندما يكون المجاز كذلك يكون مساوياً للمعنى الحقيقي فنتوقّف. وقد اشكل صاحب (الكفاية) على هذا بإشكالين: الأوّل: لا نسلّم أن صيغة الأمر تستعمل في الندب بكثرة إلى مستوى يبلغ المجازات المشهورة والرائجة. الثاني: سلّمنا أن صيغة الأمر تستعمل كثيراً في الندب، لكن استعمالها مع القرينة، وبالقرينة لا يصدق المجاز المشهور، ألا ترى أنّه قيل ما من عام إلاّ وقد خُصّ، أي أن ألفاظ العموم تستعمل كثيراً في الخاص، رغم ذلك فإنّ الخاص لا يصبح من المجازات المشهورة. وفيه: أولاً: لا ترد هذه الإشكالات على صاحب (المعالم)، فقول صاحب (الكفاية) بأن استعمال صيغة الأمر في الندب ليس كثيراً يُعدُّ إدعاء محضاً بلحاظ أنّ المستحبات كثيرة والواجبات قليلة، بل الذي بلغ بالرسول المقام المحمود هو المستحبات لا الواجبات (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً)[1] فكان على الرسول أن يأتي بصلاة الليل رغم كونه أفضل الكائنات بامل أن يبلغ ذلك المقام المحمود. ثانياً: أنّ صاحب (الكفاية) قارن بين صيغة الأمر وبين العام المخصّص، وهذه المقارنة في غير محلها؛ لأجل أن هناك أمراً انتزاعياً، ولمفردة كل وضع واحد موضوع له واحد، والجمع المحلّى بالألف واللام لفظ واحد وموضوع له واحد، أمّا في باب صيغة الأمر فالموجود هيئة واحدة ولها وضع واحد وموادها تفترق. ولهذا إذا استعمل لفظ واحد في معنى مجازي مع قرينة بكثرة يصبح من المجازات المشهورة، كما في أطراف العلم الإجمالي حيث لنا إنائانأحدهما نجس والآخر طاهر، فننتزع أنّ أحدهما نجس والآخر طاهر، هذا مع أنّ في الخارج لا يوجد فرد مرّدد، كما في الكلي العقلي أو المجموع فإن هذه المعاني غير موجودة في الخارج، ولذلك كانت المقارنة غير صحيحة. ثالثاً: المقارنة بين صيغة الأمر والعام المخصّص غير صحيحة بناءً على مبنى صاحب (الكفاية) باعتباره لا يعدُّ العام مجازاً بعد تخصيصه بل يعدُّ استعماله هنا حقيقياً. إذن، الاشكالات المتقدمة غير واردة على صاحب (المعالم)، والذي يرد على صاحب (المعالم) هو الإشكالات التالية: أولاً: عدم قبول كثرة استعمال صيغة الأمر في الندب؛ لعدم الوجه في هذا الادعاء إلاّ مسألة كثرة المستحبات، ولا تلازم بين هذه المسألة ومسألة استعمال صيغة الأمر في الندب؛ لأنّ لإثبات الندب طرقاً وأدلة مثل: مادة ينبغي، التي هي برأي عدة كثيرة من الفقهاء ظاهرة في الاستحباب، فإذا قيل: (ينبغي غسل الجمعة) كان ذلك يعني استحباب غسل الجمعة. ومن الطرق هو ذكر ثواب للعمل دون ذكر عقاب على تركه كما ورد ذلك في الصلوات على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم. ثانياً: سلّمنا أن صيغة الأمر استخدمت بالروايات في الندب كثيراً وأن ذلك من المجازات المشهورة، لكنّ هذا أخصّ من المدّعى؛ لأنّ مدّعى صاحب (المعالم) هو استعمال الصيغة في الندب على الإطلاق دون اختصاص ذلك بالكتاب والسنّة، ولذلك نتوقف في كل صيغة أمر، هذا مع أنّا إذا قبلنا المجاز المشهور هنا قبلناه فيما قبل الصادقين ـ عليهما السلام ـ وينبغي التوقف فيما بعدهما ولا يشمل ذلك الأوامر الواردة في الكتاب والواردة على لسان من سبق الصادقين عليهما السلام، ففي هذه الموارد نحمل الأوامر على الوجوب إذا لم تكن هناك قرينة صارفة، وذلك لأصالة الحقيقة. كان ذلك الوجه الأوّل في دلالة صيغة الأمر على الوجوب وقد اعتمده الشيخ صاحب (الكفاية) وذكرنا أدلة عدم تمامه. -------------------------------------------------------------------------------- [1] - الإسراء: 79.
|