Loading...
error_text
موقع مكتب سماحة آية الله العظمى الشيخ الصانعي مُدّ ظِلّه العالي :: مكتبة دينية
حجم الحرف
۱  ۲  ۳ 
التحميل المجدد   
موقع مكتب سماحة آية الله العظمى الشيخ الصانعي مُدّ ظِلّه العالي :: القائلون بالتحريم

القائلون بالتحريم

وأمّا التحريم ، فقد رواه كثير من القدماء الأعاظم من أصحاب الحديث ، ورواة الأحكام ، وفقهاء أصحاب الأئمّة (عليهم السلام) ، كعليّ بن جعفر[1] ، وموسى بن القاسم[2] ، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر[3] ، ويونس بن عبد الرحمن[4] ، ومحمّد بن أحمد بن يحيى بن عمران[5] ، ومحمّد بن يحيى العطّار[6] ، وأبي علي أحمد بن إدريس الأشعري[7] ، وعليّ بن إبراهيم القمّي[8] ؛ فإنّهم قد أوردوا الأخبار الظاهرة في تحريم العصير الزبيبي في كتبهم المصنَّفة للاعتماد والعمل ، وما ذلك إلاّ لكونها معتبرة عندهم ، مقبولة لديهم ، وأنّ مضامينها هي عين مذاهبهم وفتاويهم ؛ إذ ليس فتوى المحدّثين إلاّ نفس المعنى الظاهر من الحديث الذي يروونه ما لم يطعنوا فيه ، أو يذكروا له معارضاً ، ولولا ذلك لانسدّ الطريق إلى معرفة مذاهب القدماء من أصحابنا ؛ إذ قلّما يتّفق منهم الإفتاء والحكم الصريح بالتحليل والتحريم على ما هو طريقة الفقهاء في كتب الفتوى ، واستنباط أقوال القدماء بهذا الوجه ليس ببدع منّا ، بل هو طريق جدد قد سلكه متقدّمو الفقهاء المصنّفين في الفقه في تحصيل تلك المذاهب ، والبناء عليها في الإجماع والخلاف ، كما يعلم بمراجعة كتب المفيد والمرتضى والشيخ وغيرهم .

وينبّه على اشتهار التحريم بين السلف وفي الصدر الأوّل سؤال عليّ بن جعفر أخاه موسى (عليه السلام) عن ماء الزبيب يطبخ حتّى يذهب ثلثاه ، هل يصلح أن يرفع ويشرب طول السنة ؟[9] حيث إنّ المستفاد منه كون المشتبه حكم المطبوخ على الثلث ، باعتبار بقائه وطول مكثه ، لا لاشتراط الحلّية فيه بطبخه على الثلث .

وكذا ما تضمّنته موثّقة عمّـار الساباطي من السؤال عن ماء الزبيب ، أ نّه كيف يطبخ حتّى يحلّ ؟[10] لدلالته على علم السائل بأنّ الحلّ في المسؤول عنه مشروط وليس بمطلق ، وإن اشتبه عليه تعيين الشرط .

وقد أورد ثقة الإسلام الكليني في الكافي في باب أصل تحريم الخمر[11] الأخبار المتضمّنة لتحريم ثمرة الكرم بالغليان ، وأ نّها في حكم الخمر ما لم يذهب منها الثلثان[12] ، وفي باب صفة الشراب الحلال الروايات الدالّة على تحريم ماء الزبيب بعينه[13] ، وفي باب الطلاء رواية علي بن جعفر الواردة في شراب الزبيب[14] ، وتطبيق ما أورده من الأخبار على نحو عنوان الباب ، وكذا طريقته المعروفة التي نبّه عليها في مفتتح الكتاب[15] يقتضي كونه عاملا بما دلّت عليه تلك الظواهر التي لم يذكر لها معارضاً .

وحكى رئيس المحدّثين الصدوق في كتاب المقنع والفقيه ، عن أبيه الشيخ الجليل عليّ بن بابويه أ نّه قال في رسالته إليه : « اعلم أنّ أصل الخمر من الكرم ، إذا أصابته النار أو غلى من نفسه من غير أن تصيبه النار فيصير أعلاه أسفله[16] فهو خمر ، ولا يحلّ[17]إلاّ أن يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه »[18] .

وهذه العبارة بعينها هي عبارة الفقه المنسوب إلى الرضا (عليه السلام)[19] ، وظاهرها تحريم ثمرة الكرم مطلقاً ولو بعد جفافها وصيرورتها زبيباً .

وهذا بإطلاقه يدلّ على أنّ تحريم العصير الزبيبي مذهب عليّ بن بابويه ـ طاب ثراه ـ ومِن طريقة الصدوق العمل برسالة أبيه إليه ؛ فإنّه يسلكها في كتابه الذي أ لّفه ليكون حجّة بينه وبين ربّه ، مسلك الأخبار التي عليها الحكم والفتوى . وقد ذكر في المقنع أنّ ما يورده فيه هو ما كان مبيّناً ثابتاً عن المشايخ الفقهاء الثقات[20] ، ومقتضى ذلك كونه ما تضمّنته العبارة مذهباً له أيضاً .

وقد أورد في كتاب علل الشرائع والأحكام الأحاديث المتضمّنة لتعليل ذهاب الثلثين في ثمرة الكرم بما وقع بين نوح (عليه السلام)وإبليس من النزاع ، حتّى استقرّ الأمر فيه على الثلثين[21] . وظاهرها اعتبار ذهابهما في حاصل الكرم مطلقاً ، رطباً ويابساً .

وقد قال في الباب الأوّل من كتاب من لا يحضره الفقيه : « أنّ النبيذ الذي أحلّ شربه والوضوء به هو الذي ينبذ في الغداة ويشرب بالعشيّ ، أو ينبذ بالعشيّ ويشرب بالغداة »[22] . ويستفاد منه أنّ ما تجاوز الحدّ المذكور هو النبيذ المحرّم ، وهو خلاف ما عليه المحلّلون من تحليل النقيعين مطلقاً ما لم يتحقّق فيهما الإسكار .

وأورد الشيخ الطائفة في التهذيب رواية عليّ بن جعفر الظاهرة في تحريم ماء الزبيب في جملة روايات العصير[23] ، وصحيحته المتضمّنة لعدم تصديق من لم يكن مسلماً عارفاً في الشراب الذي يأتي به ما لم يعلم أ نّه مطبوخ على ثلث[24] ، وكذا موثّقة عمّـار الدالّة على ذلك[25] ، وإطلاق الشراب فيهما يشمل الزبيبي ، ويدلّ على تحريمه دلالة ظاهرة .

وقد أورد فيه أيضاً رواية عيثمة المتضمّنة لإهراق النضوح في البالوعة[26] ، ثمّ قال : «وأمّا ما رواه سعدان بن مسلم عن علي الواسطي ، قال دخلت الجُوَيرِيَة على أبي عبد الله(عليه السلام)فقالت : إنّي اُطيّب لزوجي فأجعل في المشطة التي أتمشّط[27] بها الخمر ، وأجعله في رأسي ، قال : لا بأس ، فلا ينافي الخبر الأوّل ؛ لأ نّه محمول على المعنى الذي رواه عمّـار الساباطي ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام)عن النضوح ، قال : « يطبخ التمر حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ، ثمّ يمتشطن »[28] .

وهذا يدلّ على أنّ العصير التمري عند الشيخ حرام نجس ، لا يطهر ولا يحلّ إلاّ بذهاب ثلثيه ، وتحريم التمري يقتضي تحريم الزبيبي ؛ لأنّ تحريم الزبيبي أشهر فتوىً وأوضح دليلا ، وثبوت الأضعف يستلزم ثبوت الأقوى .

وأيضاً فالظاهر أنّ كلّ من قال بتحريم التمري قال بتحريم الزبيبي ، ومن قال بحلّية الزبيبي قال بحلّية التمري ، فالقول بتحريم التمري دون الزبيبي خلاف الإجماع .

وقال القاضي نعمان المصري في دعائم الإسلام : « وكلّ ما استخرج[29] من عصير العنب والتمر والزبيب وطبخ قبل أن ينشّ حتّى يصير له قوام كقوام العسل فهو حلال شربه صرفاً ومشوباً بالماء ، ما لم يغل »[30] .

وهذا الكلام ظاهر الدلالة في التسوية بين أنواع العصير في تحريمها بالطبخ ما لم يحصل لها قوام وثخانة ، وهو كناية عن ذهاب الثلثين ، أو ناظر إلى الاكتفاء بالدبسيّة في حلّ العصير ، كما ذهب إليه بعض الأصحاب[31] ، وعلى التقديرين فقضيّة العبارة تحريم العصير الزبيبي بالغليان ، كما قاله المحرّمون ، وأمّا أ نّ غاية التحريم ذهاب الثلثين أو الدبسيّة فذلك كلام آخر . والغليان في قوله : « ما لم يغل » كناية عن الإسكار ؛ فإنّ الدبس متى حلّ لم يحرم إلاّ به إجماعاً ، وفيما تقدّم المنقول من كلامه وما تأخّر عنه دلالة على ذلك أيضاً .

والقاضي نعمان هذا هو النعمان بن محمّد بن منصور ، قاضي مصر ، وقد كان في بدو أمره مالكيّاً ، ثمّ انتقل إلى مذهب الإماميّة وصنّف على طريقة الشيعة كتباً ، منها كتاب دعائم الإسلام ، وله فيه وفي غيره ردود على فقهاء العامّة ، كأبي حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم . وذكر صاحب تأريخ مصر[32] وغيره[33] : « إنّه كان من أهل العلم والفقه والدين والنبل على ما لا يزيد عليه . وكتاب الدعائم كتاب حسن جيّد ، يصدّق ما قد قيل فيه ، إلاّ أ نّه لم يرو فيه عمّن بعد الصادق من الأئمة(عليهم السلام)، خوفاً من الخلفاء الإسماعيليّة ، حيث كان قاضياً منصوباً من قبلهم بمصر ، لكنّه قد أبدى من وراء ستر التقيّة حقيقة مذهبه بما لا يخفى على اللبيب » .

وقد روى الأصحاب تحريم العصير[34] ، وأطلق جماعة منهم تحريمه في كتب الفتوى من دون تقييد بالعنبي[35] ، وظاهرهم تحريم العصير بأنواعه الثلاثة المشهورة ؛ فإنّ إطلاقه على الزبيبي والتمري في عبارات الفقهاء ظاهر معروف ، وقد مضى من كلامهم ما يدلّ عليه ، ويأتي إن شاء اللّه تعالى ما يزيده بياناً ووضوحاً .

ومن ادّعى أنّ المراد به في كلام الأصحاب خصوص العنبي حيث يُطلق هو مطالَب بدليل التقييد ، وتقييده في بعض عباراتهم لدليل لا يوجب التقيّد به مطلقاً .

وممّن أطلق القول بتحريمه الشيخ وابن البرّاج وابن حمزة في النهاية[36] والمهذّب[37]والوسيلة[38] ، إلاّ أ نّهم ذكروا بعد ذلك ما نقلناه عنهم في جملة أقوال المحلّلين[39] ، وليس فيما ذكروه تصريح بإرادة الحلّ مطلقاً ، وتقييد كلامهم الأوّل ما يوافق إطلاق الثاني ليس أولى من العكس .

وقد جرى الفاضلان في كتاب المطاعم والمشارب على منوال من تقدّمهما من الأصحاب ، حيث أطلقا فيه تحريم العصير ولم يتعرّضا لحكم الزبيبي والتمري بالخصوص .

قال المحقّق في الشرائع : « ويحرم العصير إذا غلى ، سواء غلى بنفسه أو بالنار ، ولا يحلّ حتّى يذهب ثلثاه ، أو ينقلب خلاّ »[40] .

وقال العلاّمة في التحرير : « ويحرم العصير إذا غلى بأن يصير أسفله أعلاه ، سواء غلى بنفسه أو بالنار ، فإن غلى بالنار وذهب ثلثاه حلّ ، ولا يحلّ لو ذهب أقلّ »[41] .

وقال في القواعد : « والعصير إذا غلى حرام نجس ، سواء غلى من قبل نفسه أو بالنار ، ولا يحلّ حتّى يذهب ثلثاه أو يصير خلاّ »[42] .

وفي الإرشاد : « ويحرم العصير إذا غلى واشتدّ إلى أن ينقلب خلاًّ ، أو يذهب ثلثاه »[43] .

وإطلاق كلامهما في هذا المقام الذي يناسب التفصيل ـ لو ثبت ـ يقتضي كون التحريم عندهما فيه غير مختصّ بالعصير العنبي ، وإلاّ لكان الحكم في الزبيبي والتمري مع عموم البلوى به ومسيس الحاجة إليه مهملا في موضعه ، متروك البيان في محلّه ، والاعتماد على حكم الأصل في مثل هذا الأمر الذي تتوفّر إليه الدواعي بعيد من طريقة الفقهاء ؛ فإنّ من عادتهم التعرّض لمثل ذلك ، خصوصاً مع وجود الخلاف وتطرّق الشبهة باعتبار تعارض الأدلّة . وترجيحهما الاختصاص في كتاب الحدود[44]لا ينافي ذلك ؛ فإنّ اختلافهما في المسألة الواحدة ولو في الكتاب الواحد غير غزيز ، والتنبيه على المواضع التي اتّفق لهما ذلك يقضي إلى التطويل الخارج عن الغرض ، وثبوتهما التخصّص في الحدود بالنظر والتردّد ممّـا يشهد بإرادتهما العموم من إطلاق العصير في كتاب المطاعم ، مع أنّ المحقّق في النافع قد أطلق تحريم العصير في الحدود أيضاً ، كما في الأطعمة[45] ، وكذا العلاّمة في التبصرة[46] .

وقد حكى فخر المحقّقين في حواشي الإرشاد ـ على ما نُقل عنه ـ عن والده العلاّمة أ نّه كان يجتنب عصير الزبيب[47] ، وكلامه في جواب مسائل مهنّا بن سنان المدني واضح الدلالة على التحريم ، حيث إنّه سئل عن طبخ حبّ الرمّان بالمعتصر من الزبيب أو العنب ، فأجاب بما هذا لفظه : « أمّا ما يسمّى عصيراً فالوجه في غليانه اعتبار ثلثيه ، وأمّا الزبيب فالأقرب إباحته مع إنضمامه إلى غيره ؛ لأنّ الناس في جميع الأزمان والأصقاع يستعملونه من غير إنكار أحد منهم »[48] .

والظاهر أنّ الذي استقرّ عليه رأي العلاّمة في المسألة هو التحريم ؛ فإنّه ذكر في ذيل مسائل ابن سنان إجازته إيّاه لمصنّفاته[49] ، وعدّ منها كتابي القواعد والتحرير ، وكتاب المختلف ، وهو من آخر ما صنّفه ، وكتاب الخلاصة في الرجال ، وقد ذكر فيها من مصنّفاته القواعد والتحرير والإرشاد والتلخيص وغيرها من كتبه الفقهيّة[50] .

وقال فخر المحقّقين في الإيضاح في بيان وجه النظر المتقدّم في القواعد في مسألة التمر : « ا نّه ينشأ من كونه نبيذاً ، والنبيذ حرام ، وأ نّه إذا غلى صار كالعصير ؛ لإطلاق اسمه عليه ، فيحرم ، ومن أصالة الإباحة ولزوم الحرج من تحريمه ، فيحلّ . قال : وهو الأقوى »[51] .

وأجاب عن وجهي التحريم بمنع الصغرى فيها ، مع كلّية الكبرى في الأوّل .

وقال في بيان النظر في حكم الزبيب : « ا نّه ينشأ من أنّ ماهيّته ماهيّة العنب ، فإذا غلا فهو العصير ، ومن أصالة الإباحة واستصحابها ولزوم الحرج وانتفاء السكر المقتضي للتحريم »[52] .

ولم يرجّح أحد الطرفين هنا صريحاً ، كما في التمر ، فظاهره الميل إلى التحريم ؛ فإنّ وجه الذي علّله به لا يعارضه شيء من وجوه الحلّ إن تمّ . وليس في كلامه ما يؤذن بالقدح فيه .

وقد تقدّم فيما حكيناه عن الشهيد في الدروس[53] أ نّه عزى القول فيه إلى بعض مشايخه المعاصرين ، وكان المراد به فخر المحقّقين ؛ لأ نّه أشهر مشايخه وأعرفهم ، والنقل عنه متكرّر في كتب الشهيد[54] ، وفي بعض حواشي الدروس[55] تصريح بذلك ، ولعلّه سمع منه الحكم بالتحريم مذاكرة ، أو ثبت عنده قوله به بطريق النقل ، وإلاّ فكلامه في الإيضاح ليس نصّاً في ذلك .

وقال ابن فهد في كتاب الحدود من المهذّب : « أمّا عصير التمر أو الرطب فلا يحرم بالغليان[56] وإن أزبد ما لم يسكر ، وكذا لو ألقى الزبيب في طبيخ وغلى لم يحرم حتّى يعلم حصول الإسكار فيه »[57] ، يلوح منه اختصاص الحلّ بطعام الزبيبة وعصير التمر والرطب ، دون العصير الزبيبي .

وقد ذهب إلى التحريم صريحاً جماعة من متأخّري الأصحاب ، منهم الشيخ المحدّث محمّد بن الحسن الحرّ العاملي[58] ، والشيخ الفقيه سليمان بن عبد الله البحراني[59] ، وكذا السيّد الفاضل عبد الله بن نور الدين الجزايري في شرحه على النخبة ، وقد قال فيه بعد اختياره ذلك : « وقد توافق كثير من المشايخ الذين عاصرناهم وقاربناهم على التصريح بمساواة العصير التمري والزبيبي للعنبي في التحريم »[60] .

وإلى هذا القول ميل الشيخ الفقيه الشهير بالفاضل الهندي في شرحه على القواعد حيث قال في كتاب الطهارة في مسألة العصير : « ولعلّ منه ـ أي : من العصير ـ الزبيبي لا الحصرمي »[61] .

وهو ظاهر الفاضل القاساني في الوافي[62] ، وأطعمة المفاتيح[63] ، وهو اختيار شيخنا المحقّق ـ دام ظلّه ـ[64] .

هذا ما تيسّر لنا نقله من الأقوال في هذه المسألة ممّـا أدّى إليه تتبّع كلام الأصحاب ورواياتهم الواردة في هذا الباب ، ولم أجد لأحد من علمائنا ـ مع تكرّر ذكر الخلاف في كلامهم ـ نصّاً على تعيين المختلفين فيها من المحلِّلين والمحرِّمين ، وكتاب المختلف الموضوع لبيان الأقوال المختلفة خال عن هذه المسألة ، وليس لها فيه ذكر أصلا ، والشهيدان وغيرهما قد اكتفوا فيها بالإشارة إلى الخلاف[65] ، ولم يتعرّضوا لتفصيل الأقوال ولا لتعيين القائلين بها . وقد ادّعى بعض من تأخّر عن الشهيد الثاني أنّ القول بالتحليل هو المشهور بين الأصحاب[66] ، ولا أعرف له وجهاً سوى ما يوهمه كلام الشهيدين من نسبة القول بالتحريم إلى البعض[67] ، وليس هذا صريحاً في كونه خلاف المشهور ؛ فإنّ الإسناد إلى البعض لا ينحصر وجهه في المخالفة للشهرة ؛ إذ قد يكون الوجه فيه تضعيف القول ، أو عدم تعيّن القائل ، أو ندرة المصرّح ، أو غير ذلك من الاعتبارات التي يحسن معها الإسناد المذكور ، ولو كان اشتهار الحلّ أمراً ثابتاً محقَّقاً لصرّح به الشهيد الثاني ؛ فإنّه قد بالغ في تقوية الحلّ بما تيسّر له ، والشهرة من الأسباب المقوّية التي قد يختلف لأجلها الحكم ، وليس في كلامه ما يدلّ على ذلك نصّاً ، بل ظاهر كلامه المنقول عن الروض[68] ربما اقتضى خلاف ذلك ، حيث نسب القول بالتحريم فيه إلى جماعة من الأصحاب ، وهذا إنّما يقال غالباً إذا كان في القائلين تعدّد وكثرة .

وأمّا الإسناد إلى البعض في عبارة الدروس[69] ، فظاهر أن ليس الغرض منه التنبيه على الاشتهار ؛ لأ نّه قد عزى فيه القول بتحريم الزبيبي وحلّية التمري إلى البعض في مقام واحد ، فلو كان المراد الإشعار بالشهرة لزم التدافع في كلامه ؛ لأنّ اشتهار الحرمة في التمري يقتضي اشتهاره في الزبيبي ، فإنّ تحريم الزبيبي أشهر من تحريم التمري وأعرف منه في فتاوى الأصحاب ، حتّى أنّ من القائلين بالحلّ من نفى القول بتحريم التمري وادّعى أ نّه خلاف الإجماع[70] ، ومنهم من قطع بالحلّ في التمري واستقرب ذلك في الزبيبي بعد التردّد والنظر[71] . فعلم أنّ الإسناد إلى البعض في كلامه لبعض الاعتبارات التي ذكرناها ، دون الإيذان بالشهرة ، كما يُتوهّم من ظاهر العبارة ، على أنّ أقصى ما يقتضيه ذلك هو اشتهار الحلّ في طبيخ الزبيب ، والذي ادّعاه المتأخّرون اشتهاره في المعتصر منه مطلقاً ، وهذا لا يلزم ممّـا ذكره قطعاً ، بل ربما كان اختياره التحريم في مسألة النقيع انتفاء الشهرة فيه[72] ؛ لكونها حجّة عنده ، كما يدلّ عليه كلامه في الذكرى[73] .

فإن قيل : لعلّ الوجه في ادّعاء الشهرة كون التحليل هو قول معظم فقهائنا المعروفين المصنّفين في الفقه ، كما ظهر ممّـا سبق في نقل الأقوال .

قلنا : هذا أيضاً غير ثابت ؛ لأنّ مذاهب أكثر المتقدّمين على المفيد من الفقهاء ، كابن الجنيد ، وابن أبي عقيل ، وغيرهما ، لم تعرف إلاّ بالنقل عنهم ؛ لذهاب كتبهم واندراسها ، ولم ينقل أحد من الأصحاب في المسألة عنهم قولا بالحلّ ، ومصنّفات المفيد والسيّد المرتضى وسلاّر ليس فيها تعرّض لحكم العصير ، فضلا عن الزبيبي بخصوصه ، وكلام الشيخ في المسألة مختلف ، وهو مع اختلافه ليس نصّاً في شيء من الحلّ والتحريم ، كما عرفت[74] ، وكذا كلام ابن البرّاج وابن حمزة وغيرهما من أتباع الشيخ[75] .

وأمّا الفاضلان ، فالظاهر أنّ الذي استقرّ عليه رأيهما هو التحريم ، كما يقتضيه إطلاق المحقّق تحريم العصير في كتاب المطاعم والحدود من النافع[76] الذي هو مختصر الشرائع ومتأخّر التصنيف عنه ، وكذا ما سبق عن العلاّمة في المسائل المدنيّة[77]المتأخّرة عن كتبه الفقهيّة ، وفتوى الشهيد في المسألة مختلفة ؛ إذ ظاهر اللمعة التحليل مطلقاً[78] ، والمستفاد من الدروس[79] التفصيل بحلّ الطبيخ دون النقيع ، وهو خلاف ما ذهب إليه القائلون بالحلّ ، وظاهر كلام ابن فهد في حدود المهذّب[80] يقتضي رجوعه عن اختياره الحلّ في أطعمة الكتاب[81] ، فإذن لم يخلص للقول بالحلّ إلاّ آحاد لا يثبت بهم اشتهار القول المذكور قطعاً ، وباقي الأصحاب بين قائل بالتحريم ، ومختلف في فتواه ، وساكت عن المسألة ، أو مسكوت عنه ، والأمر الثابت المقطوع به هنا حكم الأصحاب بتحريم العصير ، وروايتهم الأخبار الواردة فيه وفي خصوص المعتصر من الزبيب ، وهو عند التحقيق راجع إلى القول بالتحريم ما لم يعلم خلافه . وقد علم من ذلك بطلان دعوى الاشتهار في جانب الحلّ ، وأنّ الظاهر اشتهار التحريم وخصوصاً عند القدماء من أصحاب الحديث .

وغاية ما يقال في مقام التسليم هو نفي الشهرة من الجانبين ، أو القول بثبوت الشهرتين : اشتهار التحريم بين المتقدّمين ، وشهرة الحلّ بين المتأخّرين ، فأمّا اشتهار الحلّ مطلقاً فلا .

وكيف كان ، فالمختار في المسألة أنّ العصير الزبيبي كالعنبي في الحلّ والتحريم معاً .

--------------------------------------------------------------------------------

[1]. وسائل الشيعة 25 : 294 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأشربة المحرّمة ، الباب 7 ، الحديث 7 .

[2]. وسائل الشيعة 25 : 295 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأشربة المحرّمة ، الباب 8 ، الحديث 2 .

[3]. وسائل الشيعة 3 : 471 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ، الباب 38 ، الحديث 7 .

[4]. وسائل الشيعة 25 : 286 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأشربة المحرّمة ، الباب 2 ، الحديث 10 .

[5]. وسائل الشيعة 25 : 290 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأشربة المحرّمة ، الباب 5 ، الحديث 3 ، وسائل الشيعة 25 : 291 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأشربة المحرّمة ، الباب 5 ، الحديث 7 .

[6]. وسائل الشيعة 25 : 289 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأشربة المحرّمة ، الباب 5 ، الحديث 2 .

[7]. وسائل الشيعة 25 : 375 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأشربة المحرّمة ، الباب 34 ، الحديث 1 .

[8]. وسائل الشيعة 25 : 375 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأشربة المحرّمة ، الباب 34 ، الحديث 1 .

[9]. مضمون الحديث . وقد تقدّم تخريجها في الصفحة : 273 ، الهامش 7 .

[10]. التهذيب 9 : 135 / 501 ، باب الذبائح والأطعمة ، الحديث 237 ، وسائل الشيعة 25 : 373 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأشربة المحرّمة ، الباب 32 ، الحديث 2 .

[11]. هذه الأخبار لم ترد في باب أصل تحريم الخمر ، بل وردت في الباب قبله ، أي : باب ما يتّخذ منه الخمر .

[12]. الكافي 6 : 392 ، باب ما يتّخذ منه الخمر .

[13]. الكافي 6 : 424 ـ 426 ، باب صفة الشراب الحلال .

[14]. الكافي 6 : 421 ، باب الطلاء ، الحديث 10 .

[15]. راجع : الكافي 1 : 8 - 9 .

[16]. في المصدرين : فيصير أسفله أعلاه .

[17]. زاد في الفقيه : شربه .

[18]. المقنع : 453 ، الفقيه 4 : 56 ، باب حدّ شرب الخمر (من كتاب الحدود) ، ذيل الحديث 2 .

[19]. فقه الإمام الرضا(عليه السلام) : 280 ، باب شرب الخمر .

[20]. المقنع : 5 .

[21]. علل الشرائع : 477 ، الباب 226 .

[22]. الفقيه 1 : 15 ، باب المياه وطهرها ونجاستها ، ذيل الحديث 20 .

[23]. التهذيب 9 : 142 / 522 ، باب الذبائح والأطعمة ، الحديث 258 .

[24]. التهذيب 9 : 143 / 528 ، باب الذبائح والأطعمة ، الحديث 264 .

[25]. التهذيب 9 : 135 ـ 136 / 501 ، باب الذبائح والأطعمة ، الحديث 237 . قوله : « وعن الرجل يأتي بالشراب فيقول : هذا مطبوخ على الثلث . قال : إن كان مسلماً ورعاً مأموناً فلا بأس أن يشرب » .

[26]. التهذيب 9 : 143 / 529 ، باب الذبائح والأطعمة ، الحديث 265 .

[27]. في المصدر : فنجعل في المشطة التي أمتشط .

[28]. التهذيب 9 : 144 / 530 ـ 531 ، باب الذبائح والأطعمة ، الحديث 266 و 267 .

[29]. في المصدر : يستخرج .

[30]. دعائم الإسلام 2 : 127 ـ 128 .

[31]. هو المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان 11 : 201 . وانظر : الوسيلة : 365 ، والجامع للشرائع : 394 .

[32]. أخبار مصر (للمسبحي ) ، لا يوجد لدينا .

[33]. الوافي في الوفيات 1 : 3355 .

[34]. راجع : وسائل الشيعة 25 : 277 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأشربة المباحة ، الباب 32 .

[35]. سيأتي نقل عباراتهم بعد سطور .

[36]. النهاية : 5 .

[37]. المهذّب 2 : 433 .

[38]. الوسيلة : 365 .

[39]. راجع : الصفحة 276 - 277 .

[40]. شرائع الإسلام 3 : 177 .

[41]. تحرير الأحكام 2 : 161 .

[42]. قواعد الأحكام 3 : 330 .

[43]. إرشاد الأذهان 2 : 111 .

[44]. نقل المصنّف عبارتهما عن كتاب الحدود في الصفحة 272 - 273 .

[45]. المختصر النافع : 223 (كتاب الحدود) و 253 (كتاب الأطعمة والأشربة) .

[46]. تبصرة المتعلّمين : 165 و 188 .

[47]. حكاه عنه الفاضل الإصفهاني في كشف اللثام 1 : 396 . ولا يوجد لدينا شرح الإرشاد للفخر .

[48]. أجوبة المسائل المهنّائيّة : 104 .

[49]. أجوبة المسائل المهنّائيّة : 155 .

[50]. فعلى ذلك نعلم أنّ «مسائل ابن سنان» متأخّر عن جميع كتبه الفقهيّة ، لذا يمكن أن يقال بأ نّ ما أفتى في المسائل هو الذي استقرّ عليه مذهبه .

[51]. إيضاح الفوائد 4 : 512 ، النقل بالمضمون ، مع التلخيص .

[52]. المصدر السابق .

[53]. تقدّم في الصفحة 273 .

[54]. الدروس الشرعية 1 : 274 ، البيان : 360 ، ذكرى الشيعة 4 : 21 .

[55]. لم نجده في مشارق الشموس وغيره .

[56]. «بالغليان» لم يرد في المصدر .

[57]. المهذّب البارع 5 : 80 .

[58]. وسائل الشيعة 25 : 282 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأشربة المحرّمة ، الباب 2 .

[59]. نقله عنه في الحدائق الناضرة 5 : 141 .

[60]. هذه العبارة لا توجد في النسخة المطبوعة من كتاب «التحفة السنيّة في شرح النخبة المحسنيّة » .

[61]. كشف اللثام 1 : 396 .

[62]. الوافي 20 : 651 ، أبواب المشارب ، باب العصير الحلال والعصير الحرام .

[63]. مفاتيح الشرائع 2 : 220 - 221 .

[64]. مصابيح الظلام 5 : 32 ، شرح المفتاح 81 .

[65]. تقدّم نقل كلامهم في الصفحة 273 و 275 .

[66]. الظاهر أ نّه المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان 11 : 200 .

[67]. تقدّم كلام الشهيد في الدروس في الصفحة 273 ، وكلام الشهيد الثاني في المسالك والروض والروضة في الصفحة 275 .

[68]. روض الجنان 1 : 439 . وقد تقدّم نصّ كلامه في الصفحة 276 .

[69]. تقدّمت عبارة الدروس في الصفحة 273 .

[70]. الظاهر أ نّه الشهيد الثاني في المقاصد العليّة : 464 ، وقد تقدّم نقل كلامه في الصفحة 276 .

[71]. الظاهر أ نّه القطيفي في الهادي إلى الرشاد ، وقد تقدّم نقل كلامه في الصفحة 275 .

[72]. كذا في النسخ ، ولعلّ الأنسب : «لانتفاء الشهرة فيه » .

[73]. انظر : ذكرى الشيعة 1 : 115 .

[74]. انظر كلامه في الصفحة : 271 .

[75]. انظر كلامهم في الصفحة : 271 .

[76]. المختصر النافع : 223 (كتاب الحدود) و 253 (كتاب الأطعمة والأشربة) .

[77]. تقدّم في الصفحة : 284 .

[78]. تقدّم النقل عن الشهيد في اللمعة في الصفحة : 273 .

[79]. تقدّمت عبارة الدروس في الصفحة : 273 .

[80]. المهذّب البارع 5 : 80 .

[81]. تقدّم نقل عبارته في الصفحة : 274 .

العنوان اللاحق العنوان السابق




جميع الحقوق محفوظة لموقع آية الله العظمى الشيخ الصانعي .
المصدر: http://saanei.org